مع تعهدات السلطة اللبنانية الجديدة بالإصلاح.. هل ينتهي التدخل السياسي في القضاء؟
مع تعهدات السلطة اللبنانية الجديدة بالإصلاح.. هل ينتهي التدخل السياسي في القضاء؟
في وقت بدأ اللبنانيون فتح صفحة جديدة مع دخول البلاد مرحلة جديدة مع انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة، ارتفع منسوب التفاؤل بين المواطنين على الرغم من الأزمات الكثيرة التي يعانونها منذ سنوات، فقد أطلق كل من رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام وعودًا عدة، من بينها السعي لضمان استقلالية القضاء ومنع أي تدخلات سياسية في عمل القضاة إلى جانب تطوير عمل النيابات العامة وتشكيل الهيئات القضائية على أساس النزاهة.
ويترافق هذا الكلام مع نقاشات تدور حول مشروع استقلالية القضاء وسط توقعات بإقراره قريبًا، وفي محاولة لفهم موقف الشارع اللبناني من القضاء والمشروع المقدم، استطلعت "جسور بوست" آراء عينة من المواطنين.
وجاءت النتائج على الشكل الآتي: 71% يعتقدون أن السياسة تتدخل بعمل القضاء، في حين يرى 29% أن القضاء مستقل.. 43% لا يثقون كثيرًا في القضاء، و29% يثقون به إلى حد ما، في حين لا يثق 28% أبدًا فيه.
ويرى 86% منهم أن إقرار قانون استقلالية القضاء سيحسن الواقع، في حين لا يعتقد 14% بذلك، كما يرى 71% أن اختيار القضاة يتم على أساس الطائفية والمحسوبية، في حين يؤمن 29% أن الكفاءة هي المعيار، ومع ذلك، يتفق 100% من المستطلعين على ضرورة إنشاء هيئة مستقلة لاختيار القضاة.
وفي السياق، قال أحد المواطنين في حديث مع "جسور بوست" إنه "لا يمكن تحقيق العدالة إلا بمنع التدخلات السياسية في القضاء"، كما يرى آخر أنه "لا ثقة بقضاء يعين فيه القاضي على أساس الواسطة والولاء الحزبي".
إيجابيات وسلبيات وتفاؤل
وتعليقًا على مشروع استقلال القضاء الذي يعمل عليه، قال القاضي زياد شبيب، إنه "يتضمن العديد من الخطوات المهمة التي من شأنها إحداث تغيير إيجابي كبير لاستقلال القاضي من خلال الضمانات التي نص الدستور على وجوب تأمينها والتي لم تكن موجودة، وهذا الاستقلال بالذات -أي استقلال القاضي- هو الركن الأول الضروري لتحقيق الاستقلالية للقضاء”.
ومن أبرز تلك الضمانات التي وردت في الصيغة التي يجري دراستها هو حصانة القاضي تجاه نقله من مركز عمله والذي يجب أن يقترن بموافقة القاضي نفسه كشرط لإمكان نقله إلا في أحوال وضمن استثناءات معينة، هذا بالإضافة إلى وجوب إقرار مبدأ نفاذ المناقلات في القضاء من دون الحاجة إلى مرسوم من السلطة التنفيذية".
وفي وقت يظهر التخبط بين القوى السياسية ما بين يريد انتخاب مجلس القضاء الأعلى بأعضائه العشرة من قبل القضاة كافة، ومن يقترح انتخاب تسعة أعضاء على أن يعيّن رئيس مجلس القضاء وحده من قبل الحكومة، يعتقد شبيب في حديث مع "جسور بوست" أن النقاش (حول الصيغ المتداولة) بقي قاصرًا عن إيجاد الحلول لتجنب الأخطار الحقيقية التي ستترتب على مبدأ اعتماد الانتخاب أو توسيعه وتعميمه والتي تتعلق باستدراج الانقسامات السياسية الطائفية التي تتحكم في المشهد اللبناني إلى داخل الجسم القضائي.
وأضاف "هذا الخيار -وإن كان من حيث المبدأ خيارًا إصلاحيًا في ظاهره يهدف إلى الحد من تأثير وسطوة القوى السياسية الطائفية على مفاصل القضاء- فإنه مرشح لأن يؤدي إلى مفعول معاكس للغاية المرجوة منه بالنظر إلى طبيعة النظام اللبناني وسهولة انعكاس آلياته المعروفة على الجسم القضائي في ظل الميل الطبيعي لدى تلك القوى إلى اللعب في أي عملية انتخابية ومحاولة الفوز بها في ظل غياب أي ضمانات مؤسساتية تحول دون ذلك”.
وعن مدى احتمالية ضغط بعض الجهات لمنع تمرير المشروع، يرى شبيب، أن "طبيعة الأشياء في لعبة السلطة تثبت أن القوى السياسية التقليدية والناشئة ستعمل على إعاقة أي تطوير تشريعي من شأنه الحد من قدرتها على التأثير في القضاء بالنظر إلى أهمية دور القضاء وخطورته على وجود ونفوذ تلك القوى التي تحتاج إلى الاستمرار في القدرة على استخدام القضاء لضمان هذا النفوذ الذي يمكن ترجمته على مستوى المصالح وضمان الحماية من الملاحقة القضائية في حال توفر قضاء مستقل استقلالًا فعليًا”.
واختتم حديثه، قائلًا "لهذا ينبغي عدم استبعاد منهجية العمل التراكمي وتحصيل الإنجازات التدريجية لأجل استقلال القضاء في ظل صعوبة الوصول إلى الأهداف القصوى".
وكان رئيس مجلس القضاء القاضي سهيل عبود قد قال في تصريحات صحفية إن "السلطات والمرجعيات السياسية لا ترغب في وجود سلطة قضائية مستقلة، لأن كلًّا منها يريد قضاءً على قياسه وقياس مصالحه".
حماية القضاة أساسية
وحول أهمية كلام رئيس الجمهورية جوزيف عون حول تطوير النيابات العامة، أوضحت المحامية أنديرا الزهيري، أن "الحديث عن تطوير أجهزة النيابة العامة لا يقل أهمية عن الإصلاحات المطلوبة في الهيكلة الإدارية والقانونية والتقنية للنيابة العامة، من حيث التطوير والكفاءة وسرعة إنجاز المعاملات في القضايا؛ صونًا لمصلحة المتقاضين ومن أجل سرعة البت في القضايا وتعزيز العدالة وسيادة القانون".
وقالت الزهيري في حديث مع "جسور بوست”: "ولا يمكننا أن نتجاهل أهمية الأنظمة الرقمية والإلكترونية لسرعة البت في الإجراءات والاستفادة من التقنيات الذكية للبت بالملفات القضائية وتحليلها ومنع أي تدخل من أي جهة في أي ملف، والحرص على الحد من الرشوة والفساد.. ولا يمكن أن ننسى تلك التطويرات في تعزيز الرقابة والاستقلالية لضمان النزاهة.. وأهم ما يدخل في عملية التطوير والتحديث تجديد البنية التحتية، ورفع جودة المعدات، وآلية العمل، وكفاءة الكوادر، وتأمين بيئة ملائمة لحسن سير العمل".
وأضافت "ذلك التطوير سينعكس على المحامين حيث يحد من الازدحام وفترات الانتظار الطويلة في أقلام المحاكم والإدارات، ويعزز سرعة البت في القضايا بشكل أفضل وأسرع، وهذا التطور الممكن يرفع من الشفافية والمصداقية ويسهل الاطلاع على قاعدة البيانات والملفات إلكترونيًا، ويحد من التوقيف التعسفي وضياع الحقوق ويعزز من تحسين طريقة المقاضاة بما يضمن للمتقاضين حقوقهم وتوفير مساحة عادلة على صعيد الجميع".
وفي وقت شددت الزهيري على أن "غياب استقلالية القضاء هو من أخطر الإشكالات التي تواجه العدالة للمواطن والمجتمع بشكل عام"، ترى أنه "لتجنيب انحراف القرارات القضائية نتيجة أي ضغط سياسي أو تدخل خارجي ولتجنيب تقويض دور المحامين يجب إرساء سيادة القانون، بما في ذلك تفعيل التشريع الهادف لإقرار القانون المتعلق باستقلالية القضاء".
وفي السياق، تعتقد الزهيري أن إقرار القانون شكل حماية للقضاة المعرضين لأخطار على حياتهم، مذكرة بأهمية "تأمين الحوافز التي تساعدهم (كقضاة) على القيام بواجبهم بكل شفافية وصدق، وتأمين البيئة الملائمة من أجل اتخاذ القرار الصحيح والعادل، من دون أن يتعرضوا لخطر أو أن يستنكفوا عن إحقاق الحق وتوقيف مصالح المرافق العامة بما في ذلك الدعم المالي والإداري".
وكان وزير العدل، عادل نصار، قد أشار في وقت سابق إلى أن "المطلوب صون استقلالية القضاء وتسهيل مهامه وحمايته وتعزيز قدراته ليتمكّن من متابعة الملفات العالقة ومكافحة الفساد".
مخاوف من إصلاحات منقوصة
وفي وقت تحدثت تقارير صحفية عن تخوف من إقرار مشروع استقلالية القضاء من دون الأخذ بآراء "لجنة البندقية" في اقتراحَي قانون استقلالية القضاء العدلي في حزيران 2022 وقانون استقلالية القضاء الإداري في مارس 2024، أوضحت مسؤولة التقاضي في المفكرة القانونية أن اللجنة وضعت "عددًا من التوصيات المهمّة لضمان معايير استقلالية القضاء في الاقتراحين، إلا أنّ هذه التوصيات لم يتم اعتمادها بعد ولم يتم إدخالها في متن الاقتراحين”.
وقالت فرنجية في حديث مع "جسور بوست"، "لكن منذ ذلك الوقت انعقد (منتدى العدالة) الذي يضم جميع المعنيين من سلطات ومؤسسات وجامعات ونقابات محامين ومنظمات غير حكومية، وتم التوافق على ضرورة الالتزام بهذه المعايير، ويؤمل تاليًا أن يتم إدخال توصيات (المنتدى) كما وردت في الإصلاحات القانونية الموعودة".
وأعربت عن قلقها من أن "لا يتم (الأخذ بتوصيات المنتدى) أو أن يتم بشكل مجتزأ، بحيث يفرّغ شعار استقلالية القضاء من مضمونه.. ويجعل القانون قاصرًا عن تحقيق الأهداف المعلنة له".
وعن أبرز الضمانات التي توصي بها لجنة البندقية و"ائتلاف استقلال القضاء" باعتمادها في اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي، تكشف فرنجية أنها تشمل "ضمان استقلالية هيئة التفتيش القضائي وإجراءات التقييم عن السلطة التنفيذية، وتعزيز تمثيل الفئات الشابة للقضاة في مجالس القضاء العليا، واعتماد آلية محايدة وفعالة لإجراء التشكيلات القضائية من دون تمييز وعلى أساس الكفاءة، وإرساء مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه، ووضع قواعد لضمان الاستقلالية المالية والحقوق والحريات الأساسية للقضاة، وضمان المساواة بين القضاة".
ويُتوقع أن يقر مجلس النواب اللبناني قانون استقلالية القضاء قريبًا، في وقت يراقب المجتمع الدولي عمل مؤسسات الدولة ويطالب الحكومة بإصلاحات على مستويات عدة، قبل توفير أي دعم لها.
أهمية الضغط الدولي
وترى رئيسة برامج لبنان واليمن في "المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، نور البجاني، أنه "في حين يؤكد الزعماء السياسيون في كثير من الأحيان التزامهم باستقلال القضاء، فإن الواقع في لبنان أظهر باستمرار أن القضاء ما يزال عرضة للتدخل السياسي، وأن الضعف البنيوي، وغياب الفصل الحقيقي بين السلطات، والافتقار إلى الضمانات القانونية والمؤسسية الكافية يجعل من الصعب ضمان الحماية القضائية الحقيقية”.
وقالت البجاني، في حديث مع "جسور بوست"، إن "التدقيق الدولي الحالي على لبنان، وخاصة من قبل الجهات المانحة والمؤسسات التي تدعو إلى الإصلاح، قد يخلق ضغوطًا من أجل التغيير. ومع ذلك، في غياب الإرادة السياسية القوية والتدابير القانونية الملموسة لحماية القضاة من التأثير الخارجي، فإن خطر التلاعب يظل قائمًا".
وعن أهمية دور المجتمع المدني في تعزيز استقلالية القضاء تؤكد البجاني أن "المجتمع المدني يلعب دورًا حاسمًا في تعزيز نزاهة القضاء من خلال الدعوة إلى الإصلاحات القانونية، ومراقبة الأداء القضائي، وكشف حالات التدخل والفساد.. ويمكن للمنظمات دعم استقلال القضاء من خلال توفير الخبرة الفنية، والمشاركة في حملات التوعية العامة، والضغط على السلطات لتبني الإصلاحات بما يتماشى مع المعايير الدولية.. ويمكن أن تساعد جهود التقاضي والتحقيق الاستراتيجية في تسليط الضوء على العيوب النظامية، والدفع نحو مزيد من الشفافية في التعيينات القضائية والعمليات التأديبية".
وقالت إنه "نظرًا للتداخل الراسخ بين السلطات السياسية والقضائية، فإن دور المجتمع المدني في المطالبة بالمساءلة وتعبئة الدعم العام أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى".
يذكر أن لبنان احتل عام 2024 المرتبة الـ108 من أصل 142 دولة على مؤشر سيادة القانون.
وفي محاولة لتعزيز سيادة القانون يسعى ما لا يقل عن 150 قاضيًا في لبنان تحت مسمى "نادي قضاة لبنان" إلى الدفع باتجاه قانون يضمن استقلالية فعلية للقضاء.
حيادية القاضي حجر أساس
ويرى المركز اللبناني لحقوق الإنسان أن "الكفاءة الفضائية لا تحمل قيمة حقيقية دون الاستقلال عن التدخلات السياسية وأشكال التدخل الأخرى التي قد تؤثر في حيادية القاضي في النظام القضائي اللبناني، حيث تتداخل القوى السياسية والطائفية بشكل كبير، فيصبح الاستقلال القضائي أمرًا أساسيًا لضمان أن الأحكام القضائية تصدر بناءً على القانون فقط، وليس على ضغوط أو مصالح خارجية”.
وأضاف المركز أنه "إذا كانت السلطة القضائية خاضعة لتأثيرات خارجية، فإن هذا يقلل من فاعلية القاضي في إصدار قرارات مستقلة ونزيهة، ما ينعكس سلبًا على مستوى العدالة في البلاد".
ويرى المركز أن الأمر "مقلق للغاية، إذ إن الاستقلالية تعد من الركائز الأساسية التي يجب أن يرتكز عليها القضاء لتحقيق العدالة إذا كان هناك قضاة لا يعطون الأولوية للاستقلال القضائي، فقد يفتح ذلك المجال للتأثيرات السياسية والطائفية، ما يؤدي إلى تراجع اللغة في النظام القضائي بشكل عام.. وهذا يعكس خطرًا بالغًا على مصداقية القضاء في لبنان، ويعد تهديدًا لسيادة القانون".